الأربعاء، 16 نوفمبر 2016

تاريخ علم اصول الفقه؟



تاريخ علم اصول الفقه؟



واضع هذا العلم:
المقصود به أول من صنف في هذا العلم وجعله علماً قائماً بنفسه متميزاً عن غيرهِ من سائر العلوم، وهنا تنازع أرباب المذاهب في أولوية التأليف فزعم الحنفية أن أئمتهم أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد بن الحسن هم أصحاب السبق والتدوين، وزعم آخرون بأن محمد الباقر هوأول من ألف في هذا العلم، إلا أن الذي يسرده الواقع أن الإمام الشافعي هو أول من دون وألف في هذا العلم استقلالاً، فلذلك يعد الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى عام 204 هـ هو واضع هذا العلم، إذ أنه أول من دون فيه كتاباً مستقلاً وهو كتابه ( الرسالة )،ونحن هنا عندما نقول واضع هذا العلم فلا نقصد بذلك أول من تكلم في مسائل أصول الفقه, فالذين تكلموا في مسائل أصول الفقه قبل الإمام الشافعي عدد كثير حتى في عصرالصحابةِ والتابعين, فنجد مثلاً في بعض خطابات عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ومكاتباته إلى ولاته وقضاته شيئاً من الإشارات إلى القواعد التي تعد من قبيل القواعد في أصول الفقه، حينئذ لا نعني الكلام في مسائل أصول الفقه فلا شك أن الإمام الشافعي مسبوقٌ في ذلك، فقد سبقه علماء من الصحابة والتابعين ومن تبعهم في الكلام على بعض مسائل أصول الفقه، لكننا نريد أن نحدد ضابطا لواضع علم أصول الفقه، لأنه أول من دون كتاباً مستقلاً في علم أصول الفقه ووصل إلينا هذا الكتاب فلابد منهذه الضوابط، وإذا نظرنا إلى هذه الضوابط فإن الذي يسندها من الواقع هو أن الإمام الشافعي رحمه الله هو أول من دون كتاباً مستقلا في هذا العلم لذلك يعد هو واضع علم أصول الفقه كما قلنا في كتابه الرسالة.

نشأة علم أصول الفقه وتطوره وتدوينه
من المعلوم أن علم أصول الفقه مستمد من حقائق الأحكام الشرعيةوتصوراتها وعلم العقيدة أو ما يسمى عند بعضهم بعلم الكلام، وأستمد كثير من قواعده من اللغة العربية التي جاء بها القرآن والسنة حيث إن اللغة مصدر نسترشد به إلى مقاصدالشريعة ويتمكن به المجتهد من معرفة الحقيقة والمجاز والصريح والكناية كما تقدم من مباحث اللغة. 
نشأ علم أصول الفقه
إبَّان ظهور الحركة الاجتهادية في عهد الخلفاءالراشدين وبقية الصحابة الذين كانوا يستفتون في المسائل المستجدة فيبحث المجتهدمنهم عن حكمها الشرعي في نصوص القرآن الكريم وظواهره ثم في منطوق الحديث النبوي ومفهومه وإيحاءاته وذلك عملاً بقوله تعالى ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) وعملاً كذلك بما دلت عليه السنة النبوية بآثار بلغت حد التواتر على مشروعية القياس والاجتهادمنها حديث معاذ الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً ومعلماً إلى اليمن حيث تضمن ذلك الحديث " سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذماذا تصنع إن عرض لك قضاء؟قال: أقضي بكتاب الله قال: فإن لم تجد قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليهوسلم قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله قال: أجتهد رأيي ولا آلو، أي ولا أقصر، فضربرسول الله صلى الله عليه وسلم على صدر معاذ وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسولالله لما يرضي الله ورسوله " ((الحديث متكلم في سنده، وهناك تفصيل حوله ليس هذا موضعه)), فهذا يدل على إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمل بالرأي الصحيح المستند إلى النصوص التشريعية والقياس نوع من الرأي، أستمرالعمل بهذا المنهج في عصر التابعين فقدموا القرآن أولا ثم السنة ثم الإجماع ثم الرأي والاجتهاد، وكان بعضهم يميل إلى العمل بالقياس الضيق بإلحاق الأمور غيرالمنصوص على حكمها بالمنصوص عليه، وبعضهم مال إلى العمل بالمصلحة المتفقه مع مقاصد التشريع، وذلك إن لم يكن في المسألة نص على حكمها وكان التابعون يأخذون بآراءالصحابة ويقدمونها على العمل برأيهم، ثم تبلور علم أصول الفقه في عهد أئمة المذاهب ابتداءً من عصر الإمام أبي حنيفةَ رحمه الله المتوفى عام 150 هـ، وبرزت تسميات المصادر المختلف فيها مع اتفاقهم على مضمونها الصحيح في الواقع وظهر لديهم ما يعرف بمصطلح القياس ومصطلح الاستحسان ومصطلح المصالح المرسلة ومصطلح قول الصحابي ومصطلح شرع من قبلنا ومصطلح سد الذرائع ومصطلح عمل أهل المدينة ونحو ذلك من المصطلحات التي بحثها وقررها الأصوليون بعد ذلك في مؤلفاتهم.

وظهرت فيهم مدرستان مدرسة أهل الحديث بالحجاز، ومدرسة أهل الرأي بالعراق، ومع اتفاق أهل المدرستين على العمل بكل من الحديث الصحيح والرأي، إلا أنه كان يغلب على اجتهاد أهل المدرسة الأولى الأخذ بالحديث الذي ثبت عندهم والوقوف عنده دون أخذ بالرأي المنسجم مع قواعد الشريعة العامة ومبادئهاالكلية، ويغلب على اجتهاد المدرسة الثانية العمل بالرأي عند عدم وجود نص قرآني أونبوي صحيح، علماً أن بيئة العراق التي لم يتوافر لها ثقات كثر من الرواة كانت سبباً واضحاً في هذا الاتجاه، كما أدى ذلك إلى خصوبة فقه أهل الرأي بسبب تقدم المدنيةوازدهار الحضارة واستقرار الخلافة الإسلامية العباسية في بغداد وتوابعها .
بدأتدوين علم أصول الفقه بنحو متكامل على يد الإمام الشافعي في كتابه (الرسالة) بناءًعلى طلب الإمام ابن مهدي الذي أعجب بالرسالة أعجابا شديداً وكان بعد ذلك يكثر من الدعاء للشافعي وكان يقول لمّا نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني لأنني رأيت كلام رجل عاقل ٍفصيح ٍناصح فإني لأكثر الدعاء له .

وقد بحث الشافعي في كتابه هذا مصادرالتشريع فأوضح البيان في القرآن وأبان حجية السنة ومنزلتها من القرآن حتى لقب بأنه ناصر السنةِ وإمام المحدثين وتحدث عن الناسخ والمنسوخ وعلل الأحاديث وأثبت حجيةخبر الواحد، ثم أفاض بالكلام عن الإجماع والقياس والاستحسان وما يجوز الاختلاف فيه ومالا يجوز، فضبط أصول الخلاف ووضع قواعد الاستنباط وأنار الطريق لمن بعده من العلماء لتأصيل مباحث هذا العلم وقواعده ومناهجه وتبيان طرق الاجتهاد والاستنباط،وكان في هذا الرائد الأول في تحديد المفاهيم الأصولية وضبطها وإبرازها للعلماء، بل كان واضع هذا العلم في الجملة كما تقدم الإشارة لذلك.
ولا نعني أن بدءالتدوين لعلم أصول الفقه على يد الشافعي أن قواعد هذا العلم من وضعه المستقل وإنما كانت تلك القواعد مَرعِيةً في اجتهادات الصحابة ِوالتابعين، وظهرت أيضا في وقائع اجتهاداتهم قواعد أصولية فرعية تعد أساسا في مبادئ الترجيح بين الأدلة المتعارضة،ومثال ذلك ما ورد عن الإمام علي رضي الله عنه بقياسه حد السكران على المفتري القاذف،وكما أفتى ابن مسعود بأن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها بوضع الحمل، لأن سورة الطلاق وفيها عدة الحوامل نزلت بعد سورة البقرة وفيها عدة الوفاة، والمتأخر من النصوص ينسخ المتقدم أو يخصصه وكتقديم المتواتر على الآحاد والخاص على العام والتحريم على الإباحة وتخصيص العام بالخاص وحمل المطلق على المقيد، فمثلاً قوله تعالى "حرمت عليكم الميتة والدم " وقوله تعالى " إلا أن يكون ميتةً أو دما مسفوحاً " فاللفظ المطلق في الآية الأولى " الدم " محمول على المقيد في الآية الثانية " أو دما مسفوحاً "ويكون الدم المحرم هو الدم المسفوح، كذلك كان لأئمة المذاهب قبل الشافعي كأبي حنيفة ومالك وأحمد! رحمهم الله قواعد وأصول يعتمدونها في استنباط الأحكام الشرعيةِ من أدلتها، وما تزال هذه الأصول والقواعد منقولةٌ عنهم متميزةٌ فيهم تميز كل مذهب عن غيره, ولا تزال آثارها واضحةً في الاجتهادات المنقولة عن أولئك الأئمة الأعلام،والتي سنوضحها إن شاء الله تعالى فيما ورد من مؤلفاتٍ لعلماء أصول الفقه من خلال بحث مناهج المؤلفين في هذا العلم.
تتابع العلماء بعد الامام الشافعي رحمه الله فيتدوين وتوضيح علم أصول الفقه وفي طليعتهم ما ورد عن الإمام أحمد رحمه الله الذي ألف ( كتاب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ) وكتاب ( الناسخ والمنسوخ ) وكتاب ( العلل )، وجاءت كتب علماء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة بعد ذلك لـتأصيل مناهج وقواعدلاستنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية أي لـتأصيل مناهج وقواعدعلم أصول الفقه، ومن خلال ما تقدم يتضح لنا شرف هذا العلم ومدى عناية العلماء به ابتداءًمن عصر الصحابةِ رضوان الله عليهم إلى عصرنا الحاضر، وسنورد فيما يأتي أن شاء الله تعالى من حلقات بياناً لواقع اهتمام العلماء بالتأليف في هذا العلم من خلال كلامناعلى مدارس هذا العلم ومناهج التأليف فيه، ونعيد التنبيه إلى أن علم أصول الفقه كغيره من العلوم وجد في أذهان الصحابة والتابعين ومن تبعهم، وذلك يظهر لنا من خلال اجتهاداتهم في الأحكام التي وقعت في أعصارهم فقد أتبعوا مناهج معينه في الاستنباط أو في الترجيح بين النصوص وهذه المناهج تعد قواعد أستفيد منها بعد ذلك في إقرارجملة من المسائل الأصولية ونخص من ذلك ما ورد من اجتهادات لعمر بن الخطاب رضيالله عنه في وقائع كثيرة إذ كثيراً ما كان يرسم جملة من القواعد التي يسعى من خلالهاإلى إقرار حكم معين، فاستفاد من ذلك السلف من خلال نظرهم في تلك الاجتهادات، وهكذااستفاد أيضاً علماء أصول الفقه من اجتهادات الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ومن اختلافهم وطرق تعاملهم مع النصوص الشرعية والوقائع الحادثة في وضع قواعدينطلقون منها في استنباط أحكام الفقه.
فالذي يطَّلع على كتاب الرسالة للشافعي يلحظ الأسلوب الواضح والكلام الجلي والاتجاه الصحيح في رسم جملة من القواعد التي احتاجإليها علماء عصره في ذلك الوقت، وكان لهذه القواعد التي رسمها الإمام الشافعي أثراً واضحا للعلماء الذين أتوا بعد ذلك من مختلف المذاهب، حتى كان له تأثيره في علماءالمذهب المالكي وعلماء المذهب الشافعي والمذهب الحنبلي، ولا يزال هذا الأثر مستمراً إلى عصرنا الحاضر، وكل أهل مذهب يؤكدون أن إمامهم هو واضع هذا العلم ولكن لا يسعفهم واقع المؤلفات التي بين أيدينا، 
وهناك مؤلفات ألفت في عصر الشافعي وقبله من أئمةالمذاهب على اختلافهم سواء من المذهب الحنفي أو المالكي أو الحنبلي أو الشافعي أوحتى الظاهري، لكن هذه المؤلفات من المذهب الحنفي خاصة والمالكي والظاهري، لم تكن شاملة لمسائل أصول الفقه، وإنما كانت مؤلفات تهتم بجزئيات محددة في هذا العلم فمنهم من يؤلف مثلاً في علم القياس أو علم التقليد، ومنهم من يؤلف في حجية خبر الواحد، ومنهم من يؤلف في دلالات الأخبار المتواترة وهكذا.
وهذه المؤلفات على تخصصها في علم معين ومسألة جزئية محددة يُلحظ عليها أيضا أنها في الغالب لم يصل إلينا منها مايحكم فيه بأن هذا العالم قد ألف ذلك الكتاب فعلاً بهذه الصورة بعلم أصول الفقه، وإنمايستند في ذلك إلى كتب التراجم التي ترجمت لأولئك الأعلام أو إلى نقولات العلماءالذين جاءوا بعدهم عنهم في مؤلفاتهم التي وصلت إلينا.
فهناك جمله من العلماءألفوا قبل الإمام الشافعي في مسائل أصول الفقه لكنها مسائل محدده ليست شامله لمسائل أصول الفقه، والأمر الآخر أيضا أنه لم يصل إلينا منها شيء فنحكم بتقدم أولئك الأعلام على الإمام الشافعي في التدوين في علم أصول الفقه، إنما بالضابط الذي ذكرناه يعدالإمام الشافعي هو واضع هذا العلم باعتباره أول من دون كتابا مستقلا في هذا العلم،بعد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى استمر التدوين في هذا العلم وتنوعت المؤلفات مابين كتاب مختصر في علم الأصول ومابين شرح كتاب سابق في هذا العلم حتىأننا نجد بعض علماء الشافعية من يهتم بشرح كتاب الشافعي ( الرسالة ) لكن للأسف أختصرإيراد هذه المؤلفات على كتب التراجم فقط، وأما في الواقع فقد فقدت هذه المؤلفات التي اعتنت بشرح كتاب الرسالة للإمام الشافعي، قد ورد عن بعض الأئمة الإعلام من علماءالشافعية الجهابذة الأفذاذ شروحا لهذا الكتاب ولكنها فقدت ولم يصل إلينا منها شيء






تاريخ علم أصول الفقه

البحث في تاريخ أيِّ علمٍ من العلوم من الأمور التي تجلي للدارس صورة هذا العلم، وتوضِّح كثيرًا من المراحل التي تقلَّبَ فيها منذ كان بذرة صغيرة، أو جنينًا يتقلَّب في أطوار النشأة الأولى؛ حتى يصيرَ خَلقًا مستويًا، ثم ما مرَّ به من تطورات مع تقلُّب الحِقَب وكَرِّ الدهور.

والذي لا ريبَ فيه أنَّ أصول الفقه وُجِد مع نشأة الفقه نفسِه، ولكنَّ تخصيصه بالتدوين والكتابة وتحرير المسائل لم يكتمل إلا مع نهاية القرن الثاني الهجري عندما كتب الشافعي رسالته الأصوليَّة التي كانت الأساس الأول لهذا العلم.

وفي هذا المبحث نعرض لتاريخ عِلم أصول الفقه من خلال المطالب التالية:
المطلب الأول: نشأة علم أصول الفقه.
المطلب الثاني: تدوين علم أصول الفقه.
المطلب الثالث: طرق التأليف في علم أصول الفقه.
المطلب الرابع: أهم الكتب والمؤلفات الأصوليَّة.

المطلب الأول: نشأة علم أصول الفقه:
عِلْم أصول الفقه قديمٌ قِدَم الفقه نفسه، فلا يعقل أن يوجدَ فقهٌ دون أصول علميَّة تنظِّم استنباط هذا الفقه من مصادره، ولكنَّ تاريخ التشريع الإسلامي مرَّ بمراحل يحسن بِنا أنْ نراجعها سريعًا؛ لنتعرَّف كيف نشأ علم الأصول منذ فجر التشريع.

أ- عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -:
في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي تؤْخذ عنه الأحكام؛ حيث كانت الأحكام في عهده وحيًا مُنزَّلاً في كتاب الله - تعالى - أو من سُنَّته القوليَّة والعمليَّة في فتاواه وقضاياه التي كان يقضي فيها بوحيٍّ من الله - تعالى - أو باجتهاده - صلى الله عليه وسلم - فيما يُعرض عليه من قضايا، وبهذا تكونت المجموعة الأولى من الأحكام الإسلاميَّة من أحكام الله - تعالى - وأحكام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما أقرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أقضية الصحابة.

على أنَّ عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ الاجتهاد للصحابة - رضوان الله عليهم - مثلما أقرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل - رضي الله عنه - حين بعثه إلى اليمن؛ فقد سأله النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بِمَ تقضي إذا عُرض لك قضاء؟))، قال معاذ: أقضي بكتاب الله، قال: ((فإن لم تجد؟))، قال: أقضي بسُنَّة رسول الله، قال: ((فإن لم تجد؟))، قال: أجتهدُ رأيي ولا آلو، قال: ((الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يرضي الله ورسوله))[1]، فهذا العصرُ وإن كانت الأحكام فيه هي أحكام الله وأحكام رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا أنَّ هذا العصر أقرَّ الاجتهاد فيما ليس فيه نصٌّ من كتاب ولا سُنَّة.

ب - عصر الصحابة:
ثم جاء عصر الصحابة - رضي الله عنهم - وبين أيديهم مجموعة الأحكام المثْبَتة في كتاب الله - تعالى - وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولكنَّه حدث في عصرهم من الأقضية والمشكلات ما لم يوجد في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان لا بد لهم أن يجتهدوا في القضايا والوقائع التي جَدَّتْ في عصرهم، فأعْمَلُوا الرأي، فكانوا يلحقون الشبيهَ بشبيهه، ويُسوون بينهما في الأحكام، فإن لم يجدوا شبيهًا، كانوا يبذلون الجُهد؛ لتشريع الحكم المناسب، مراعين المصلحة الداعية إلى ذلك.

لقد كان الصحابة "أبرَّ قلوبًا، وأعمق عِلمًا، وأقلَّ تكلُّفًا؛ لما خصَّهم الله - تعالى - به من توقُّد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم وسهولة الأخذ، وحُسن الإدراك وسرعته، وقِلَّة المعارض أو عدمه، وحُسن القصد، وتقوى الربِّ - تبارك وتعالى - فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فِطَرهم وعقولهم، ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة، وعِلل الحديث والجَرح والتعديل، ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين، بل قد غنوا عن ذلك كله؛ فليس في حقِّهم إلا أمران: أحدهما: قال الله كذا، وقال رسولُه كذا، الثاني: معناه كذا وكذا، وهم أسعدُ الناس بهاتين المقدمتين، وأحظى الأمة بهما؛ فقواهم مجتمعة عليهما، هذا إلى ما خُصُّوا به مِن قُوَى الأذهان، وصفائها، وصحتها وقوة إدراكها، وقُرب العهد بنور النبوة، والتلقِّي من المشْكاة النبوية"[2].

وعلى هذا كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إذا ورد عليه حُكمٌ، نظر في كتاب الله - تعالى - فإنْ وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله - تعالى - نظر في سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أنَّ رسول الله قضى فيه بقضاء؟ فربَّما قام إليه القوم فيقولون له: قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سُنَّةً سَنَّها النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيُهم على شيءٍ، قضى به، ومن بعد أبي بكر كان عمر - رضي الله عنه - يفعل مثلما فعل أبو بكر، فإذا أعياه أنْ يجدَ ذلك في الكتاب والسُّنَّة، سأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإنْ كان لأبي بكر قضاءٌ قضى به، وإلا جمع علماء الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأْيُهم على شيءٍ، قضى به.

وكان عمر - رضي الله عنه - يوصي عُمَّاله بهذا النهج، ويأمرهم أنْ يجتهدوا رأْيهم في كلِّ ما لم يتبيَّن في كتاب الله - تعالى - أو سُنَّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهكذا اجتهد الصحابة، ووضعوا من خلال اجتهادهم القواعدَ الأُولى لاستنباط الأحكام من مصادرها الشرعيَّة.

ونورد هنا بعض القواعد التي تجلَّت في اجتهادات الصحابة - رضي الله عنهم:
القاعدة الأولى:
تقديم القرآن والسُّنَّة على ما سواهما من الرأي في استنباط الأحكام، وعدم المصير إلى الاجتهاد بالرأي، إلا بعد أنْ يُعيي المجتهدَ أنْ يجدَ فيهما حكمَ القضية أو المسألة، وهذا واضحٌ من فِعل أبي بكر الصديق الذي كان يبدأ ببحث المسألة في كتاب الله - تعالى - ثم في سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم استشارة مَن له عِلْم بسُنَّة مأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسألة محل البحث، ثم الاجتهاد بالرأي الجماعي فيما يُشبه المجامع الفقهيَّة في عصرنا اليوم.

القاعدة الثانية:
ظهور الإجماع كدليل من الأدلة التي تُستنبطُ منها الأحكام، وهذا واضحٌ مِن فِعل أبي بكر في جمع رؤساء الناس - وكذلك مِن فِعل عمر - واستشارتهم، فإذا أجمعوا على شيءٍ قضى به.

القاعدة الثالثة:
أنَّ المتأخِّر في النزول ينسخ المتقدِّم في النزول، إذا كان النَّصَّان في موضوعٍ واحدٍ، وتعارضا وعُلِم التاريخ، فإذا لم يُعْلَم التاريخ يُجْمَع بين النَّصَّين في العمل ما أمكن ذلك؛ وذلك لأن أحدهما ليس بأَوْلَى في العمل ما داما في مرتبة واحدة، ونمثِّل لذلك باستدلال عبدالله بن مسعود في مسألة عِدَّة المتوفى عنها زوجها وهي حامل.

عن محمد بن سيرين، قال: لقيتُ مالك بن عامر، أو مالك بن عوف، قلت: كيف كان قول ابن مسعود في المتوفى عنها زوجها وهي حامل؟ فقال: قال ابن مسعود: أتجعلون عليها التغليظ، ولا تجعلون لها الرخصة؟ أنزلتْ سورة النساء القصرى بعد الطولى"[3].

واستدلال ابن مسعود يَعني أنَّ قول الله - تعالى -: ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4]، في سورة الطلاق - سورة النساء القصرى كما سمَّاها ابن مسعود - ناسخ لقوله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234]، في سورة البقرة - سورة النساء الطولى - وذلك لأنَّ آية البقرة تفيد أنْ عِدة المتوفى عنها زوجها هي أربعة أشهر وعشرة أيام؛ سواء كانت حاملاً أم غير حامل، وتفيد آيةُ سورة الطلاق أنَّ الحامل تعتدُّ بوضع الحمْلِ؛ سواء كان متوفى عنها زوجها أم لا.

ومن الصحابة مَن جمع بين الآيتين، فجعل عِدة المتوفى عنها زوجها بأبعد الأَجَلين.

القاعدة الرابعة:
إلحاق النظير بنظيره عند تساويهما في العِلَّة؛ مِن ذلك ما رُوي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال لعُمر: "إن الرجل إذا شرب سَكِر، وإذا سَكِر هَذَى، وإذا هَذَى افترى؛ فحدُّه حدُّ المفتري ثمانون جلدة"[4]، قال ذلك عندما شاوره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في حدِّ الشارب، وكان عمر - رضي الله عنه - يرى أنَّ الناس قد تحاقروا العقوبة، وهو قياس يُثْبتُ العِلَّة التي بُنِي عليها الحكم، فهو من القياس.

القاعدة الخامسة:
اعتبار المصلحة حيث لا نصَّ؛ فقد قال علي - رضي الله عنه - في تضمين الصناع؛ أي: دَفْعهم قيمة ما أتلفوه: "لا يصلح الناس إلا ذاك"[5].
فهذا تصريح باعتبار المصلحة المرسَلة التي لم يثبتها النصُّ ولم يلغها.

وهكذا انقضى عصر الصحابة، وهناك قواعد للاستنباط، وإن كانت غير مدوَّنة، ولكن الذي يُراجع أقضية الصحابة يَلحظ من ثنايا استدلالاتهم وفتاواهم هذه القواعد.

ولقد عَلِمَ المجتهدون من بعد الصحابة من التابعين وتابعيهم والأئمة المجتهدين - هذا الفضلَ لهم، يقول الإمام الشافعي: "وقد أثنى الله - تبارك وتعالى - على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القرآن، والتوراة، والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهيَّأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصدِّيقين والشُّهداء والصالحين، أدَّوا إلينا سُننَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشاهدوه والوحي ينزلُ عليه، فعلموا ما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامًّا وخاصًّا، وعزمًا وإرشادًا، وعَرَفوا من سُنَّته ما عرفنا وجَهِلْنا، وهم فوقنا في كلِّ علمٍ واجتهاد وورعٍ وعقلٍ وأمرٍ اسْتدرك به علمٌ واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأَوْلَى بنَا مَن رأينا عند أنفسنا، ومَن أدركنا ممن يرضى، أو حكي لنا عنه ببلدنا، صاروا إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إنْ تفرَّقوا، وهكذا نقول ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدُهم ولم يخالفه غيره، أخذنا بقوله"[6].

ج - عصر التابعين:
ثم جاء عصر التابعين فنهجوا نهج مَن سبقوهم من الصحابة، وصار بين أيديهم ثلاث مجموعات من الأحكام، هي:
1- أحكام الله - تعالى - في كتابه.
2- أحكام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سُنَّته.
3- أحكام الصحابة وفتاواهم وأَقضيتهم، ومِن هؤلاء التابعين برز في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأئمة السبعة المذكورون في قول الشاعر:
إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ 
رِوَايَتْهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الْعِلْمِ خَارِجَهْ 
فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللهِ، عُرْوَةُ، قَاسِمٌ 
سَعِيدٌ، أَبُو بَكْرٍ، سُلَيْمَانُ، خَارِجَهْ  

وهم: سعيد بن المسيب، عروة بن الزبير، القاسم بن محمد، خارجة بن زيد، أبو بكر بن عبدالرحمن، سليمان بن يسار، عبيدالله بن عبيدالله بن عتبة بن مسعود.

وفي العراق كان إبراهيم النخعي الذي أخذ علم ابن مسعود - رضي الله عنه - وهكذا في كلِّ مصر كان رجال من التابعين ينقلون عِلْمَ الصحابة، ويجتهدون فيما يجدُّ من فتاوى وأقْضِيَة وأحكام.

وفي هذا العصر اتَّسعتِ الفتوحات الإسلامية، واتسعتْ تبعًا لها الدولة الإسلامية، ودخل في الإسلام كثيرون، فظهرت الحاجة أكثر وأكثر إلى الاجتهاد والاستنباط لوقائع ومشكلات لم تكن موجودة من قبل؛ مما استدعى تخريج التابعين على فتاوى الصحابة، فضلاً عن الكتاب والسُّنَّة، فاتَّسع مَيدان التشريع للأحكام الفقهيَّة؛ حيث اجتهد التابعون في استنباط الأحكام، فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الثالث مكوَّنة من:
1- مجموعة أحكام القرآن.
2- مجموعة أحكام السُّنَّة النبويَّة.
3- مجموعة أحكام فتاوى الصحابة وأقْضِيَتِهم.
4- مجموعة أحكام التابعين وفتاواهم وأقضيتهم.

وبالطبع - مع هذا الزَّخْم العِلْمي الاجتهادي - قد تمهَّدتْ طُرق للاستنباط والتخريج، ولكن الفقه وأصول الفقه قد ظلاَّ دون تدوين، إلا - ربَّما - التدوين الفردي الذي لم يصل إلينا شيء منه، ولكن الذي بدأ هو تدوين السُّنَّة النبوية في عهد "عمر بن عبدالعزيز".

د- عصر الأئمة المجتهدين:
وبعد عصر التابعين وتابعي التابعين جاء عصر الأئمة المجتهدين؛ من أمثال الإمام مالك، والإمام الشافعي، وفي هذا العصر بدأ ظهور مدوَّنات في الفقه، ومن أول ما دُوِّن في هذا العصر فيما وصلَ إلينا هو "مُوطَّأ مالك بن أنس" الذي جمع فيه بين تدوين الحديث، وأقوال الصحابة، وفقه التابعين وأقوالهم، فكان كتابًا جامعًا في حقيقته بين الفقه والحديث، وقد جمعه الإمام مالك؛ بناءً على طلب من الخليفة المنصور.

وفي الرسائل المتبادَلة بين العلماء في هذه الفترة يظهر أثرُ العلم الأُصولي بين العلماء، مثلما دار بين الليث بن سعد فقيه مصر الكبير، والإمام مالك بن أنس يناقشه في بعض المسائل، فيظهر أثرُ الاستدلال الفِقْهي الأصولي في عبارات الرسالة، وهاك طرفًا منها:
"وأنه بلغك أني أُفْتي بأشياءَ مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وأني يَحِقُّ عليَّ الخوفُ على نفسي؛ لاعتماد مَن قبلي على ما أفتيتم به، وأنَّ الناس تَبَعٌ لأهل المدينة؛ إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتبتَ به من ذلك إن شاء الله - تعالى - ووقع منِّي بالموقع الذي تحبُّ، وما أعدُّ أحدًا قد يُنسب إليه العلم أكره لشواذ الفُتْيَا، ولا أشدَّ تفضيلاً لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ لفَتَاواهم فيما اتفقوا عليه - منِّي، والحمد لله ربِّ العالمين لا شريك له، وأما ما ذكرتَ من مقام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بالمدينة، ونزول القرآن بها عليه بين ظَهْرَاني أصحابه، وما علَّمهم الله منه، وأن الناس صاروا تبعًا لهم فيه، فكما ذكرتَ، وأما ما ذكرتَ من قول الله - تعالى -: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]، فإن كثيرًا من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله؛ ابتغاءَ مرضاة الله فجنَّدوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسُنَّة نبيِّه، ولم يكتموهم شيئًا عَلِمُوه، وكان في كلِّ جُنْدٍ منهم طائفة يُعلِّمون لله كتابَ الله وسُنَّة نبيِّه، ويجتهدون برأْيهم فيما لم يفسِّره لهم القرآن والسُّنَّة، ويُقَوِّمُهم عليه أبو بكرٍ، وعمر، وعثمان الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم.

ولم يكن أولئك الثلاثة مُضيِّعين لأجناد المسلمين ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون لأجنادهم في الأمر اليسير؛ لإقامة الدين والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسُنَّة نبيِّه، فلم يتركوا أمرًا فسَّره القرآن أو عمل به النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ائتمَرُوا فيه بعده، إلا أعْلَمُوهُم به.

فإذا جاء أمرٌ، عمل فيه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمصر، والشام، والعراق، على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يزالوا عليه حتى قُبضوا لم يأمروهم بغيره - فلا نراه يجوز لأجناد المسلمين أن يُحدثوا اليوم أمرًا لم يعمل به سلفُهم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم، مع أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اختلفوا بعده في الفُتْيا في أشياء كثيرة، ولولا أني قد عرفتُ أنْ قد عَلِمتَها لكتبتُ بها إليك، ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعيد بن المسيب ونظراؤه أشد الاختلاف، ثم اختلف الذين كانوا بعدهم، فحضرتُهم بالمدينة وغيرها، ورَأَسَهُم يومئذ ابن شهاب، وربيعة بن أبي عبدالرحمن.

فكان من خلاف ربيعة لبعض ما قد مضى ما قد عرفتُ وحضرتُ، وسمعتُ قولك فيه، وقول ذوي الرأي من أهل المدينة: يحيى بن سعيد، وعبيدالله بن عمر، وكَثِير بن فَرْقَد، وغير كثير ممن هو أسنُّ منه، حتى اضطرك ما كرهتَ من ذلك إلى فراق مَجْلِسه.

وذاكرتك أنتَ وعبدالعزيز بن عبدالله بعض ما نعيبُ على ربيعة من ذلك، فكنتما من الموافقين فيما أنكرتُ، تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك - بحمد الله - عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حَسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمة الله عليه، وغفر له، وجزاه بأحسن من عمله"[7].

من الواضح في هذه الرسالة أنَّ الإمام الليث يناقش الإمام مالك في مشروعيَّة الأَخْذ في مدارك الأحكام بعمل أهل المدينة، كما يناقشه في اختلاف صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد عصر أبي بكر وعمر وعثمان في الفتاوى والأحكام؛ مما يفتح مجالاً لمشروعية الاختلاف في الفتوى في المسائل التي يجوز فيه الاختلاف، وأن التابعين من بعد الصحابة توسَّع الخلاف الفقهي على أيديهم توسُّعًا لم يكن موجودًا من قبل، ثم نرى بعد ذلك مذهب الإمام مالك على أيدي أتباعه، وهو يعتمد عمل أهل المدينة كأحد مصادر التشريع، الأمر الذي أثار نِقاشًا فقهيًّا بين أهل الأصول منذ بعث الإمام مالك رسالته إلى الإمام الليث، وردَّ عليه الإمام الليث في رسالته التي أوردنا هنا طرفًا منها.

ثم دوَّن الإمام محمد بن الحسن الشيباني أيضًا في هذا العصر كُتب ظاهر الرواية الستة وهي:
"المبسوط والزيادات"، و"الجامع الكبير"، و"الجامع الصغير"، و"السير الكبير"، و"السير الصغير"، وسُمِّيتْ بكُتب ظاهر الرواية؛ لأنها رويت عن الثِّقات من تلاميذه، فهي ثابتة عنه إما بالتواتر أو بالشهرة، وفي هذا العصر بدأ علم أصول الفقه تتسع رقعته في تخريجات الفقهاء، واستدلالاتهم واستنباطاتهم ومناقشاتهم.

ونورد هنا مناقشة بين أبي حنيفة والإمام الباقر تبيِّن شكل المناقشات الفقهيَّة في ذلك العصر، وتبيِّن البذور الأُولى للتفكير الفِقْهي الأصولي لهذا العصر:
قال الباقر: أنتَ الذي حوَّلتَ دينَ جدِّي وأحاديثه إلى القياس؟
قال أبو حنيفة: اجْلِس مكانَك كما يحقُّ لي؛ فإن لك حُرْمة كحرمة جدِّك - عليه السلام - في حياته على أصحابه، فجلس، ثم جَثَا أبو حنيفة بين يديه، ثم قال: إني أسألك عن ثلاث كلماتٍ فأجبْنِي، الرجل أضعفُ أم المرأة؟

قال الباقر: المرأة أضعف، قال أبو حنيفة: كم سهم المرأة في الميراث؟ قال الباقر: للرجل سهمان، وللمرأة سهمٌ، قال أبو حنيفة: هذا علم جدِّك، ولو حوَّلت دينَ جدِّك، لكان ينبغي القياس أن يكونَ للرجل سهمٌ، وللمرأة سهمان؛ لأن المرأة أضعف من الرجل، ثم الصلاة أفضل أم الصوم؟ قال الباقر: الصلاة أفضل، قال أبو حنيفة: هذا قول جدِّك، ولو حوَّلت دينَ جدِّك، لكان أنَّ المرأة إذا طَهُرَتْ من الحيض أمرتُها أن تقضي الصلاة، ولا تقضي الصوم.
ثم البول أنجسُ أم النُّطْفَة؟ قال الإمام الباقر: البول أنجس، قال أبو حنيفة: لو كنتُ حوَّلتُ دينَ جدِّك بالقياس، لكنتُ أمرتُ أن يُغتسلَ من البول، ويُتوضَّأ من النُّطْفَة، ولكنْ معاذ الله أن أحوِّلَ دينَ جدِّك بالقياس، فقام الإمام الباقر، وعانقه، وقبَّل وجهه"[8].

ففي هذا الحوار بين الإمام الباقر والإمام أبي حنيفة يظهر مصطلح القياس، وأنَّ أول مَن اشْتُهر به وتوسَّع في استخدامه هو الإمام أبو حنيفة، ونرى كيف يحدِّد الإمام أبو حنيفة مجال القياس، وهو أنه يكون عند عدم النصِّ، وهي قاعدة قال بها الأصوليون فيما بعد عندما ضبطوا القياس وبيَّنوا أركانه وشروطه، ولمَّا وقع الخلاف بين أهل الرأي، وأهل الحديث، وادَّعى الاجتهاد نفَرٌ ممن لم يتأهَّل له، وخلطوا في استدلالاتهم، ظهرت الحاجة ماسَّة إلى وَضْع قواعد للاجتهاد، وقد كان للإمام الشافعي: محمد بن إدريس الفضل في إخراج أول مَصنَّف في علم أصول الفقه؛ حيث رسالته الأصولية مقدمة لكتاب "الأم" الذي ألَّفه الشافعي في الفقه، وضمَّنه مَذْهَبه الجديد.

المطلب الثاني: تدوين أصول الفقه:
بدأ هذا العلم إذًا وليدًا على شكل قواعدَ متناثرة في ثنايا كلام الفقهاء، وبيانهم للأحكام؛ فقد كان الفقيه يذكر الحكم ودليلَه ووجه الاستدلال به، كما أنَّ الخلاف الفقهي بين الفقهاء كان يُعضدُ - مثلما أوردنا في المطلب السابق - بقواعدَ أُصوليَّة يعتمد عليها كلُّ فقيهٍ؛ لتقوية وجهة نظره، وتعزيز مذهبه، وبيان مأخذه في الاجتهاد.

أما تدوين أصول الفقه، فقد اختلف الباحثون في بَدء هذا التاريخ، فمنهم من يرى أنَّ الإمام جعفر الصادق هو واضع هذا العلم؛ أي: أول من دوَّن فيه، ومن قائل يرى أنَّ أول من دوَّن في أصول الفقه هو أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، ولكن لم يصلْ إلينا شيءٌ من كُتُبِه.

والثابت لدى أغلب الباحثين أنَّ أول من صنَّف في هذا العلم تصنيفًا مستقلاً، إنما هو عالم قريش الإمام محمد بن إدريس الشافعي الذي اتَّجه إلى تدوين هذا العلم الجليل، فرسم مناهج الاستنباط، ووضَّح معالِمَ هذا العلم.

مؤهلات الشافعي:
لقد وجد الشافعي الثروة الفقهيَّة المتمثِّلة في أحكام القرآن والسُّنَّة، وفتاوى الصحابة وأقضيتهم، وفتاوى التابعين وأقْضيتهم، كما وجد ما تركه أصحابُ الاتجاهات المختلفة، والمناظرات التي أُثِرتْ عن فقهاء المدينة، وفقهاء العراق، فخاض غمار ذلك كله، فهداه ذلك إلى وَضْع موازينَ يتبيِّن بها الخطأ من الصواب في الاستدلال، فكانت تلك الموازين هي أصول الفقه.

"ولا غرابة أنْ يكون البحثُ في فروع الفقه وتدوينها متقدمًا على تدوين أصول الفقه؛ لأنه إذا كان علم أصول الفقه موازينَ لضبط الاستنباط، ومعرفة الخطأ من الصواب، فهو علم ضابط والمادة هي الفقه، وكذلك الشأن في كلِّ العلوم الضابطة، فالنحو متأخِّر عن النُّطق بالفُصْحَى، والشعراء كانوا يقولون الشعر موزونًا قبل أن يضعَ الخليل بن أحمد ضوابط العَروض، والناس كانوا يتجادلون، ويفكرون قبل أن يدوِّن "أرسطو" عِلْم المنطق.

ولقد كان الشافعي جديرًا بأن يكونَ أوَّل مَن يدوِّن ضوابط الاستنباط؛ فقد أُوتِي عِلمًا دقيقًا باللسان العربي؛ حتى عُدَّ في صفوف الكبار من علماء اللغة، وأُوتِي عِلْم الحديث، فتخرَّج على أعظم رجاله، وأحاط بكلِّ أنواع الفقه في عصره، وكان عليمًا باختلاف العلماء من عصر الصحابة إلى عصره، وكان حريصًا أنَ يعرفَ أسباب الخلاف، والوجهات المختلفة التي تتجه إليها أنظار المختلفين، وبهذا وبغيره توفَّرت له الأداة لأنْ يستخرجَ من المادة الفقهيَّة التي تلقاها الموازين التي تُوزن بها آراءُ السابقين، وتكون أساسًا لاستنباط اللاحقين، يراعونها فيقاربون ولا يباعدون.

فبعِلم اللسان استطاع أن يستنبطَ القواعد؛ لاستخراج الأحكام الفقهيَّة من نصوص القرآن والسُّنَّة، وبدراسته في مكةَ التي كان يتوارثُ فيها عِلْم عبدالله بن عباس الذي سُمِّي تُرْجُمان القرآن، عَرَفَ الناسخ والمنسوخ، وباطِّلاعه الواسع على السُّنِّة، وتلقِّيه لها من علمائها وموازنتها بالقرآن، استطاع أن يعرفَ مقامَ السُّنة من القرآن، وحالها عند معارضة بعض ظواهرها لظواهر القرآن الكريم، وقد كانت دراسته لفقه الرأي، وللمأثور من آراء الصحابة أساسًا لما وضعه من ضوابط للقياس، وهكذا وضع الشافعي قواعدَ للاستنباط، ولم تكن في جملتها ابتداعًا ابتدعه، ولكنها ملاحظة دقيقة لما كان يسلكه الفقهاء الذين اهتدى بهم من مناهج في استنباطهم لم يدوِّنوها، فهو لم يبتدع مناهج الاستنباط، ولكن له السَّبْقُ في أنه جمع أشتات هذه المناهج التي اختارها، ودوَّنها في عِلْم مترابطِ الأجزاء"[9].

خلاصة الرسالة:
"والحق أنَّ الشافعي رتَّب أبوابَ هذا العلم، وجمع فصولَه، ولم يقتصرْ على مبحث دون مبحث، بل بحثَ في الكتاب، وبحث في السُّنة، وطُرق إثباتها، ومقامها من القرآن.

وبحث الدلالات اللفظية فتكلَّم في العام والخاص، والمشترك والمجمَل والمفصل، وبحثَ في الإجماع وحقيقته، وناقشه مناقشة عِلْميَّة لم يعرفْ أنَّ أحدًا سبقه بها، وضبط القياس، وتكلَّم في الاستحسان.

وهكذا استرسلَ الشافعي في بيان حقائق هذا العلم مبوَّبة مفصَّلة، وهو بهذا لم يُسبقْ، أو على التحقيق لم يُعلم إلى الآن أنَّ أحدًا سبقَه، ولا يغضُّ هذا من مقام مَن سبقوه، فلا يغضُّ هذا من مقام شيخِه "مالك"، ولا مِن مقام شيخ فقهاء القياس "أبي حنيفة"؛ فإن التدوين في عصرهما لم يكنْ تَكَامَلَ نُموُّه.

ولا نقول: إنَّ الشافعي قد أتى بالعلم كاملاً على كلِّ الوجوه؛ بحيث أنه لم يبقَ مجهودًا لمن بعده، بل إنَّه جاء من بعده مَن زاد ونَمَّى وحرَّر مسائلَ كثيرة في هذا العلم"[10].

المطلب الثالث: طُرق التأليف والبحث في أصول الفقه:
لقد استمرَّ التدوين والبحث في أصول الشافعي، ذلك أنَّ أربابَ المذاهب الفقهيَّة اتَّفقوا مع الشافعي في أغلب ما قرَّره في الرسالة، ومنهم مَن اختلفَ معه في بعضها، فالحنفيَّة مثلاً خالفوه في الأخْذِ بالاستحسان الذي كتب فيه الشافعي في الرسالة كتاب إبطال الاستحسان، والمالكية خالفوه في الأخْذِ بعملِ أهل المدينة كمصدر من مصادر فقهِهم، كما خالفوه في الأخْذ بالذرائع، والمصالح المرسَلة.

ومن هنا فَقدْ توسَّعت البحوث في علم أصول الفقه، وكان هناك تيَّاران أو اتجاهان في التأليف:
الاتجاه الأول: طريقة الشافعيَّة أو المتكلمين:
هذا الاتجاه يبحثُ في علم أصول الفقه على طريقة الشافعي؛ من خلال تقرير القواعد، واستنباطها وبحثِها بحثًا نظريًّا غير متقيِّدٍ بالفروع الفقهيَّة، بل يبحثُ القاعدةَ ويقرِّرها، وينظر فيها؛ سواء خالفتِ الفروع الفقهيَّة المستنبطة من قَبْل أو وافقتها.

وهذه الطريقة يُسمِّيها الباحثون في علم الأصول: طريقة الشافعيَّة أو طريقة المتكلِّمين، وذلك أنَّ كثيرًا من الباحثين والمؤلِّفين في هذه الطريقة كانوا من علماء الكلام الذين تناولوا بالبحث والتأليف أصولَ الفقه عن طريق البحث النظري المجرَّد، واختلطت في بحوثِهم مسائلُ عِلْم الأصول مع مسائل الكلام، وأثاروا بحوثًا نظرية، مثل: كلامهم في التحسين العقْلي والتقبيح العقلي، مع اتفاقهم على أنَّ الأحكام في غير العبادات مُعلَّلة، مَعقولَة المعنَى.

وهكذا يختلفون في مسائلَ نظرية كثيرة لا ينبني عليها عَمَلٌ ولا تدخل في عِلْم أصول الفقه ومباحثه وقضاياه، ولا تسنّ طريقًا للاستنباط، ومن ذلك خلافهم في جواز تكليف المعدوم، بل إنهم بحثوا مسائل وقضايا هي من صميم علم الكلام، ونمثِّل هنا بكتاب "المستصفى"؛ للغزالي؛ حيث قدَّم للكتاب بمقدمة في المنطق والبرهان العقلي، زادت على الصفحات الخمسين، ثم تناول في ثنايا الكتاب مسائلَ لا تدخل في صُلب مباحث أصول الفقه، وهو نفسه يقرِّر في هذه المقدمة أنها ليست من علم الأصول، ولكنه يراها مقدمة ضروريَّة لكلِّ العلوم، وفي هذا الاتجاه كان البحث يعتمد على تعصُّبٍ مَذْهبي، ولا يتَّجه البحث فيه لإخضاع الأصول النظرية، وقواعد الاستنباط للفروع الفقهية، بل كانت القواعد تدرسُ على أنَّها حاكمة على الفروع، وعلى أنها دعامة الفقه، وطريقة الاستنباط، ونستطيع أن نلخص أبرزَ خصائص هذا الاتجاه فيما يلي:
1- عدم الالتفات إلى موافقة فروع المذهب أو مخالفتها للقواعد الأصولية، وإنما التعويل الكامل على الأدلة النقليَّة والعقلية.
2- عدم الالتزام بالمذهب فيما يتوصَّل إليه من قواعد، و الإكثار من الاستدلالات العقلية والبراهين النظريَّة.
3- قِلَّة إيراد الفروع الفقهية، إلا في مقام التمثيل والتوضيح، كما أنَّ القواعد الأصولية في طريقة البحث في هذا الاتجاه يُحكم بها على فروع المذهب دون العكس، وكذلك التوسُّع في تحرير القواعد، وتمحيص الخلافات، وتحقيق المسائل.
4- اشتمال المؤلَّفات على هذه الطريقة على جُملة من المسائل العقلية والكلامية التي ليست من علم الأصول، وكذلك اشتمال تلك المؤلَّفات على مسائلَ خلافيَّة لا يترتَّب على الخلاف فيها ثمرة، وهو مما أُخِذَ على هذا الاتجاه.

وقد التزم بهذه الطريقة جمهورُ العلماء الشافعية، والمالكية، والحنابلة؛ فلذا يُطلق عليها طريقة الجمهور.

الاتجاه الثاني: طريقة الحنفية:
وهذا الاتجاه يبحث في علم الأصول بدراسة فروع المذهب، واستنباط القواعد الأصولية التي بَنَى عليها فقهاءُ المذهب استدلالاتهم، وذلك أنَّ فقهاء المذهب الحنفي الذي عُرِفَتْ هذه الطريقة بهم لم يتركوا قواعدَ مدوَّنة للاستنباط والاستدلال؛ لأن عصرَهم لم يكن بَعْدُ عصرَ تَكامُلِ التدوين، ومن هنا جاء بَعدَهم مَن نظرَ في فروعهم، وجادلوا عنها، وفي ثنايا البحث والمناظرة والحِجاج كانوا يستخرجون ما في الفروع من القواعد التي بُني عليها الاستنباط والاستدلال، ثم توسَّعت المذاهب المختلفة في الأخْذِ بهذه الطريقة؛ دفاعًا عن فروعهم، واستدلالاً لمذهبهم.

وبهذا تختلف أصول الحنفية عن أصول الشافعية، والجمهور في أنَّ أصول الشافعية كانت منهاجًا للاستنباط، وكانت حاكمة عليه، أما طريقة الحنفية فقد كانت غير حاكمة على الفروع بعد أن دُوِّنتْ؛ أي: إنهم استنبطوا القواعد التي تبيِّن مذهبهم وتؤيده؛ فهي إذًا مقاييس مقرَّرة لا مقاييس حاكمة.

ونستطيع أن نلخص أبرز خصائص هذا الاتجاه فيما يلي:
1- هي طريقة لاستنباط أصول الاجتهاد الذي وقع بالفعل، وهي قواعد مستقلِّة يمكن الموازنة بينها وبين غيرها من القواعد.
2- هي طريقة مطبَّقة في الفروع؛ فهي ليست بحوثًا نظرية مجرَّدة، إنما هي بحوث كُليَّة وقضايا عامة، فتستفيد الكُليَّات من تلك الدراسة.
3- استنباط القواعد الأصولية من الفروع الفقهيَّة، والالتزام بالمذهب فيما يتوصَّل إليه من قواعد، حتى ولو صِيغتِ القاعدة بطريقة متكلفة لتتوافق مع الفروع.
4- كثرة الفروع والأمثلة والشواهد، وقِلة المسائل الافتراضيَّة والنظرية، والمسائل التي لا يَنْبَنِي عليها أثرٌ فِقهي.
5- مكَّنت هذه الطريقة من كثرة التخريج في المذاهب، وتفريع الفروع بناءً على القواعد المستنبطة.

اتجاه المتأخرين:
بعد أنِ اسْتقامتِ الطريقتان كلٌّ في منهاجها، ظهرتْ طريقة المتأخِّرين من الأصوليين الذين جمعوا بين الطريقتين، فكانوا يقرِّرون القواعدَ من خلال البحث النظري المجرَّد، ويستشهدون عليها بالفروع، فلا يكون البحثُ النظري مقرِّرًا للقواعد والأصول، ولا تصبح الفروع هي المقرِّرة لما يتمُّ استنباطه من القواعد، وقد ظهرتْ هذه الطريقة في حدود القرن السابع الهجري.

ومن خصائص البحث والدراسة وَفق هذا المنهج:
1- الجمع بين الأدلة العقلية والنقلية، وبين الفروع الفقهيَّة في دراسة القواعد الأصولية، وعدم الاقتصار على أحدهما.
2- الجمع بين فائدتين؛ فائدة تعود على الفقه، وذلك بذكْر الفروع الفقهيَّة، وفائدة تعود على القواعد الأصولية، وذلك بتمحيص أدلتها ومناقشتها.
3- استيعاب ما أُلِّف على طريقتي المتكلِّمين والفقهاء.
4- سِمَة الاختصار في أغلب المؤلَّفات على هذه الطريقة.

منهج جديد:
وهناك من علماء الأصول مَن سلك مسلكًا مُغايرًا، ونهج نهجًا متميِّزًا في البحث والتأليف في علم الأصول، هذا المسلك يقوم على تناول مقاصد الشريعة العامة ومصالحها الكُليَّة، هذه المقاصد وتلك المصالح إنما جاءت الشريعة لحمايتها ومراعاتها، وقد كانت بحوث أصول الفقه السابقة لا تُعْنَى بهذا الجانب ولا تتناوله، ومِن هؤلاء الإمام أبو إسحاق الشاطبي المالكي المتوفى سنة 780 هـ؛ فقد اتجه الإمام الشاطبي إلى العناية بأسرار التشريع، وتوضيح مقاصد الشارع، ويُعدُّ كتابه من أعظم ما كُتِبَ في الأصول، كما يُعدُّ بَدءًا لمنهج جديد من الأصول يغاير المناهج القائمة من قبل.

المطلب الرابع: أهم الكتب والمؤلَّفات الأصولية:
كما سبق أنْ بيَّنَّا، كان هناك اتجاهان أساسيَّان في البحث والتأليف في أصول الفقه، هما اتجاه الشافعيَّة أو الجمهور أو المتكلِّمين كما أُطْلِق عليه، والاتجاه الثاني الذي عُرِف بطريقة الحنفية، ثم كانت طريقة المتأخِّرين التي جمعت بين الطريقتين، وأخيرًا تناولنا بإيجاز طريقة "الشاطبي" الذي نَحا مَنحًى جديدًا في البحث في علم الأصول، وهذه الاتجاهات قد وَضَعَ الباحثون في كلٍّ منها كُتُبًا على طريقته في البحث والتأليف عبر مراحل تاريخ أصول الفقه، ونورد هنا أشهر الكُتب التي وُضِعتْ في كلِّ اتِّجاه.

أولاً: كُتب على طريقة الشافعية:
1- "العهد"؛ للقاضي عبدالجبار المعتزلي، المتوفى (415هـ).
2- "المعتمد"؛ لأبي الحسين البصري المعتزلي، المتوفى (463هـ).
3- "البرهان"؛ لأبي المعالي الجويني الشافعي، المتوفى (478هـ).
4- "المستصفى"؛ لأبي حامد الغزالي الشافعي، المتوفى (505هـ).
5- "المحصول"؛ لفخر الدين الرازي الشافعي، المتوفى (606هـ).
6- "الإحكام"؛ لسيف الدين الآمدي الشافعي، المتوفى (631هـ).
7- "منهاج الوصول"؛ للبيضاوي، المتوفى ( 685 هـ).
8- "التنقيحات"؛ للقرافي المالكي، المتوفى (684هـ).
9- "منتهى السول"؛ لابن الحاجب المالكي، المتوفى (646هـ).

ثانيًا: كُتب على طريقة الحنفيَّة:
1- "أصول الكرخي": أبي الحسين بن عبيدالله، المتوفى (340هـ).
2- "أصول الجصاص": أبي بكر أحمد بن علي، المتوفى (378هـ).
3- "تقويم الأدلة"؛ لأبي زيد الدبوسي، المتوفى (340هـ).
4- "تمهيد الفصول"؛ للسَّرَخْسِي محمد بن أحمد، المتوفى ( 428هـ).
5- "الأصول"؛ لعلي بن أحمد البزدوي، المتوفى (482هـ).
6- "كشف الأسرار"؛ لعبدالعزيز البخاري، المتوفى (730هـ).
7- "تخريج الفروع على الأصول"؛ للزنجاني، المتوفى (656هـ).
8- "التمهيد"؛ لجمال الدين الإسْنَوي الشافعي، المتوفى (772هـ).
9- "تنقيح الفصول"؛ للقرافي المالكي، المتوفى (684).
10- "القواعد"؛ لأبي الحسن الحنبلي، المتوفى (830هـ).

ثالثًا: كُتب على طريقة المتأخرين:
1- "بديع النظام"؛ لمظفر الدين الساعاتي، المتوفى (694هـ).
2- "جمع الجوامع"؛ للسبكي الشافعي، المتوفى (771هـ).
3- "تنقيح الأصول"؛ لصدر الشريعة الحنفي، المتوفى (654هـ).
4- "التحرير"؛ للكمال بن الهمام الحنفي، المتوفى (861هـ).
5- "مسلم الثبوت"؛ لمحب الدين عبدالشكور، المتوفى (1119هـ).
6- "إرشاد الفحول"؛ للشوكاني، المتوفى (1250هـ).

رابعًا: كتب اهتمَّت بمقاصد الشريعة ونظريات الأحكام:
1- "الموافقات في أصول الشريعة"؛ للشاطبي المالكي، المتوفى (790هـ).
2- "الأشباه والنظائر"؛ لتاج الدين السبكي، المتوفى (772هـ).
3- "قواعد الأحكام"؛ لعز الدين بن عبدالسلام، المتوفى (660هـ).
4- "القواعد الفقهية"؛ لابن رجب الحنبلي، المتوفى (795هـ).
5- "منثور القواعد"؛ لبدر الدين الزركشي، المتوفى (794هـ).
6- "الأشباه والنظائر"؛ لجلال الدين السيوطي، المتوفى (911هـ).
7- "الفروق"؛ لشهاب الدين القَرافي المالكي، المتوفى (684).

خامسًا: كتب حديثة:
ومع النهضة الحديثة التي دبَّت في العالم الإسلامي بعد عصور الجمود والتقليد، ومع بزوغ النهضة الفقهيَّة من جديد، ظهر عددٌ من المؤلَّفات الحديثة في أصول الفقه تقرِّب مسائله، وتيسِّر على الطلاب دَرْسَه، وهذه الكتب الحديثة تمتاز بالوضوح المنهجي، وسهولة العبارة، وقُرْب المأخذ، ومراعاة قضايا العصر، ومشكلاته وروحه.

ومن أشهر هذه المؤلَّفات:
1- "أصول الفقه"؛ للشيخ محمد الخضري، المتوفى (1345هـ).
2- "علم أصول الفقه"؛ للشيخ عبدالوهاب خلاف، المتوفى (1955م).
3- "أصول الفقه"؛ للأستاذ الشيخ محمد أبي زهرة، المتوفى (1974م).

وهناك غيرها كثير من الكتب المعاصرة في هذا العلم الشريف.

[1] هذا الحديث اختلف في تصحيحه أهلُ العلم قديمًا وحديثًا، وممن ضعَّفه الإمام ابن حزم من السابقين، والشيخ الألباني من المعاصرين، وممن صحَّحه ابن تيميَّة، وابن القيم، وهو حديث تلقَّته الأُمة بالقَبول، وأجمع عليه عامة أهل الأصول، أخرجه أبو داود.
[2] "إعلام الموقعين"؛ ابن القيم، ج (4)، ص: (148- 150).
[3] رواه البخاري.
[4] "موطأ مالك".
[5] "تنقيح الفصول وشرحه"؛ للقرافي، ص (198 - 199).
[6] "إعلام الموقعين"؛ ابن القيم، ج (1)، ص: (80).
[7] "تاريخ دمشق"؛ ابن عساكر، ج (64)، ص (249).
[8] "الإمام الصادق"؛ أبو زهرة، ص (23).
[9] "أصول الفقه"؛ أبو زهرة، ص (10 -11).
[10] "أصول الفقه"؛ أبو زهرة، ص (13).


0 التعليقات:

خبير الاعشاب والتغذية العلاجية (خبير الاعشاب والتغذية العلاجية ) Powered by Blogger Design by Blogspot Templates